فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 129‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون‏}‏‏:‏ لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ قال المنافقون حين نزلت‏:‏ ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ لما دعا الرسول على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال‏:‏ وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي‏:‏ ليس هؤلاء بمؤمنين‏.‏ وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة الناقرة، وهذا هو الظاهر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الآية في البعوث والسرايا‏.‏ والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي‏:‏ يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة، فيبقى هو مفرداً‏.‏ وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي‏:‏ الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي‏:‏ فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وقعدت أخرى ليتفقهوا‏.‏ وقيل‏:‏ على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين، وذلك دليل على صحة الإسلام، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين‏.‏ والذي يظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي‏:‏ فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم، وقتال أعدائهم، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم، وهذا بالقتال‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ليتفقهوا في الدين، ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، ولينذروا قومهم، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا الله تعالى، فيعملوا عملاً صالحاً‏.‏

ووجه آخر‏:‏ وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجهاد بالحجة أعظم أمراً من الجهاد بالسيف‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏:‏ لما خص تعالى على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف‏.‏ وقال بعض الشعراء في ذلك‏:‏

من لا يعدله القرآن كان له *** من الصغار وبيض الهند تعديل

قيل‏:‏ نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام‏.‏ وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية من آخر ما نزل‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الآية مبينة صورة القتال كافة، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها‏:‏ أنّ الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام‏.‏ وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد‏.‏ وقال‏:‏ قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يلي ويقرب، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال‏:‏ عليك بالروم‏.‏ وقال علي بن الحسين والحسن‏:‏ هم الروم والديلم، يعني في زمنه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏

إلى آخرها‏.‏ وقيل‏:‏ هم قريظة والنضير وفدك وخيبر‏.‏ وقال قوم‏:‏ تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم، فأمروا بقتالهم‏.‏ ويلونكم‏:‏ ظاهره القرب في المكان‏.‏ وقيل‏:‏ هو عام في القرب في المكان، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة، وقد أمرنا بقتال كلهم، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن النفقات فيه، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل، وحصول غير الإسلام أيسر‏.‏ وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعَددهم وعُددهم، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد‏.‏ وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏}‏ وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة» وقال تعالى ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا‏}‏ والغلظة‏:‏ تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة، والغلظة حقيقة في الأجسام، واستعيرت هنا للشدة في الحرب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد، والأعمش وأبان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابان أيضاً بضمها وهي لغة تميم، وعن أبي عمر وثلاث اللغات ثم قال‏:‏ واعلموا أنّ الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى الله تعالى، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد، ولا يقصد بقتاله الغنيمة، ولا الفخر، ولا إظهار البسالة‏.‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه والثانية في المنافقين، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون‏:‏ هل يراكم من أحد إن قمتم‏؟‏ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد‏.‏ ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم‏.‏ وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم، وقولهم‏:‏ أيكم زادته هذه إيماناً، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين، ويحتمل أن يقولوا‏:‏ ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق‏.‏

ومعنى قولهم ذلك‏:‏ هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها، كما تقول‏:‏ أي غريب في هذا وأي دليل في هذا، وفي الفتيان قيل‏:‏ هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ رأيكم بالرفع‏.‏ وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير‏:‏ أيكم بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو‏:‏ أزيداً ضربته‏.‏ والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته، أو عبارة عن إزالة شك يسير، أو شبهة عارضة غير مستحكمة، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة‏.‏ وأما على قول من يسمي الطاعة إيماناً، وذلك مجاز عند أهل السنة، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً‏.‏ وقال الربيع‏:‏ فزادتهم إيماناً أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات، وأثلج للصدور‏.‏ أو فزادتهم عملاً، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل انتهى‏.‏ وهي نزعة اعتزالية، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه‏.‏ وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والصحة والمرض في الأجسام، فنقل إلى الاعتقاد مجازاً والرجس القذر، والرجس العذاب، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال‏.‏ وإذا كفروا بسورة‏.‏ فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم‏.‏ قال قطرب والزجاج‏:‏ أراد كفراً إلى كفرهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إثماً إلى إثمهم‏.‏ وقال السدي والكلبي‏:‏ شكاً إلى شكهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين‏:‏ زيادة الإيمان، والاستبشار بما لهم عند الله‏.‏ وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر‏.‏

‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏‏:‏ لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها‏.‏ والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءة الجمهور بالياء‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ بالتاء خطاباً للمؤمنين‏.‏ والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر‏.‏ وقرأ أبي وابن مسعود، والأعمش‏:‏ أو لا ترى أي أنت يا محمد‏؟‏ وعن الأعمش أيضاً‏:‏ أو لم تروا‏؟‏ وقال أبو حاتم عنه‏:‏ أو لم يروا‏؟‏ قال مجاهد‏:‏ يفتنون، يختبرون بالسنة والجوع‏.‏

وقال النقاش عنه‏:‏ مرضة أو مرضتين‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ يختبرون بالأمر بالجهاد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة‏.‏ وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه، فمعنى الآية على هذا‏:‏ أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى‏.‏ وقاله مختصراً مقاتل قال‏:‏ يفضحون بإظهار نفاقهم، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين، وقد كان الحسن ينشد‏:‏

أفي كل عام مرضة ثم نقهة *** فحتى متى حتى متى وإلى متى

وقالت فرقة‏:‏ معنى يفتنون بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك‏.‏ وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة، وهو غريب من المعنى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ولا هم يتذكرون‏.‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏ ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء، ثم ذكر ثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي، وسخرية قائلين‏:‏ هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون‏:‏ هل يراكم من أحد‏؟‏ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت‏.‏ وقيل‏:‏ ثم صفة محذوفة أي‏:‏ سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير، يفهم من تلك النظرة التقرير‏:‏ هل يراكم من ينقل عنكم‏؟‏ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم‏؟‏ ثم انصرفوا أي‏:‏ عن طريق الاهتداء، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى‏:‏ قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازاً، فالمعنى‏:‏ انصرفوا عن الإيمان، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه، قاله الكلبي، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله، وهذا القول راجع لقول الكلبي‏.‏

صرف الله قلوبهم صيغته خبر، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان، قاله الفراء‏.‏ والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله‏:‏ ثم انصرفوا، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أضلهم‏.‏ وقيل‏:‏ عن فهم القرآن والإيمان به‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عن كل رشد وخير وهدى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ طبع عليها بكفرهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا، أو بصرف، فيكون من باب الإعمال أي‏:‏ بسبب انصرافهم، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده‏.‏

‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءُوف رحيم‏}‏‏:‏ لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم، ويرأف بهم، ويرحمهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال‏:‏ يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل، ويحتمل أن يكون خطاباً لبني آدم، والمعنى‏:‏ أنه لم يكن من غير جنس بني آدم، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً‏}‏ ولما كان المخاطبون عاماً، إما عامة العرب، وإما عامة بني آدم، جاء الخطاب عاماً بقوله‏:‏ عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي‏:‏ على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك‏.‏ ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله‏:‏ بالمؤمنين رءُوف رحيم‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ وقال في زناة المؤمنين‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ وقوله من أنفسكم، يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏

«إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفانى من بني هاشم» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني من نكاح ولست من سفاح» معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى‏.‏ وصف الله نبيه عليه السلام بستة‏:‏ أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدئ بذكرها‏.‏ وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة‏.‏ وكونه يعز عليه ما يشق عليكم، فهذا الوصف من نتائج الرسالة‏.‏ ومن كونه من أنفسهم، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم، وهو أيضاً من نتائج الرسالة، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية‏.‏ وكونه رءُوفاً رحيماً بالمؤمنين، وهما وصفان من نتائج التبعية له، والدخول في دين الله‏.‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك»

وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي، ويعقوب من بعض طرقه‏:‏ من أنفسكم بفتح الفاء‏.‏ ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما، والمعنى‏:‏ من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء‏.‏ والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي‏:‏ يعز عليه مشقتكم كما قال‏:‏

يسر المرء ما ذهب الليالي *** وكان ذهابهن له ذهابا

أي يسر المرء ذهاب الليالي‏.‏ ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي‏:‏ عنتكم عزيز عليه، وقدم خبره، والأول أعرب‏.‏ وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ، وما عنتم الخبر، وأن تكون ما بمعنى الذي، وأن تكون مصدرية، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين‏.‏ وقال ابن القشيري‏:‏ عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته، ثم استأنف فقال‏:‏ عليه ما عنتم أي‏:‏ يهمه أمركم انتهى‏.‏ والعنت‏:‏ تقدم شرحه في البقرة في قوله

‏{‏لأعنتكم‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ هنا مشقتكم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إثمكم‏.‏ وقال سعيد بن أبي عروبة‏:‏ ضلالكم‏.‏ وقال العتبي‏:‏ ما ضركم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ ما أهلككم‏.‏ وقيل‏:‏ ما غمكم‏.‏ والأولى أن يضمر في عليكم أي‏:‏ على هداكم وإيمانكم كقوله‏:‏ ‏{‏إن تحرص على هداهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ وقيل‏:‏ حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الحريص هو الشحيح، والمعنى‏:‏ أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار‏.‏ وقيل‏:‏ حريص على دخولكم الجنة‏.‏ وإنما احتيج إلى الإضمار، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات‏.‏ ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برءُوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فيكون من باب التنازع‏.‏ وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول‏:‏ زيداً ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين‏.‏ وقال قوم‏:‏ بالتوزيع، رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين‏.‏ وقيل‏:‏ رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره‏.‏ وقيل‏:‏ رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه قال‏:‏ بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بالناس لرءُوف رحيم‏}‏ ‏{‏فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم‏}‏‏:‏ أي فإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل‏:‏ حسبي الله أي‏:‏ كافيّ من كل شيء، عليه توكلت أي‏:‏ فوضت أمري إليه لا إلى غيره، وقد كفاه الله شرهم ونصره عليهم، إذ لا إله غيره‏.‏ وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ العرش لا يقدر أحد قدره انتهى‏.‏ وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ العظيم برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير‏.‏ قال أبو بكر الأصم‏:‏ وهذه القراءة أعجب إليّ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض، وبكمال العلم والقدرة، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام، أو تصل إليه الأفهام‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها‏.‏ وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً بالله لقد جاءكم الآيتان، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفها، ولذلك قال‏:‏ فقدت آيتين من آخر سورة التوبة، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال‏:‏ من قال‏:‏ «إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه»‏.‏

سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

القدم‏:‏ قال الليث وأبو الهيثم‏:‏ القدم السابقة‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة *** لهم قدم معروفة ومفاخر

وقال أبو عبيدة والكسائي‏:‏ كل سابق في خير أو شر فهو قدم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ سابقة إخلاص كما في قول حسان‏:‏

لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لا ولنا في طاعة الله تابع

وقال أحمد بن يحيى‏:‏ كل ما قدمت من خير‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء‏.‏

‏{‏الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين‏}‏‏:‏ هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، فإنها نزلت بالمدينة، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة‏.‏ وقال قوم‏:‏ نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، ونزل باقيها بالمدينة‏.‏ وقال الحسن وعطاء وجابر‏:‏ هي مكية وسبب نزولها‏:‏ أنّ أهل مكة قالوا‏:‏ لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا‏.‏

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة‏}‏ وذكر تكذيب المنافقين ثم قال‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها‏:‏ أنا الله أرى، ومنها أنا الله الرحمن، ومنها أنه يتركب منها ومن حم ومن نون الرحمن‏.‏ فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة، ومنها أنا الرب وغير ذلك‏.‏ والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه‏.‏ فقال مجاهد وقتادة‏:‏ أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها‏.‏ وقيل‏:‏ إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله، ومنه نسخ كل كتاب كما قال‏:‏ ‏{‏بل هو قرآن مجيد فى لوح محفوظ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنه في أم الكتاب‏}‏ وقيل‏:‏ إشارة إلى الراء وأخواتها من حروف المعجم، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال‏.‏

وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري‏.‏ وقيل‏:‏ استعمل تلك بمعنى هذه، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس، واختاره أبو عبيدة‏.‏ فقيل‏:‏ آيات القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة‏}‏ وقيل‏:‏ المشار إليه هو الراء، فإنها كنوز القرآن، وبها العلوم التي استأثر الله بها‏.‏ وقيل‏:‏ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة‏.‏

والحكيم‏:‏ الحاكم، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها‏.‏ وتعلقه بها، أو المحكم، أو المحكوم به، أو المحكم أقوال‏.‏ والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير، أي‏:‏ لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم‏.‏ واسم كان أن أوحينا، وعجباً الخبر، وللناس فقيل‏:‏ هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدَّم كان حالاً‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بقوله‏:‏ عجباً وليس مصدراً، بل هو بمعنى معجب‏.‏ والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول‏.‏ وقيل‏:‏ هو تبيين أي أعنى للناس‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بكان وإن كانت ناقصة، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ عجب، فقيل‏:‏ عجب اسم كان، وأنْ أوحينا هو الخبر، فيكون نظير‏:‏ يكون مزاجها عسل وماء، وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى‏:‏ أحدث للناس عجب لأن أوحينا، وهذا التوجيه حسن‏.‏ ومعنى للناس عجباً‏:‏ أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم‏.‏ وقرأ رؤبة‏:‏ إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد‏.‏ ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا، والبشارة خاصة، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا‏.‏ وأن أنذر‏:‏ أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشري‏:‏ ويجوز أنْ تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع، لا المخففة من الثقيلة لأنّها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر، وينسبك منها معه مصدر تقديره‏:‏ بإنذار الناس‏.‏ وهذا الوجه أولى من التفسيرية، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية‏.‏ ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر، ولأنّ التأصيل خير من دعوى الحذف بالتحفيف‏.‏ وبشر الذين آمنوا أن لهم أي‏:‏ بأن لهم، وحذفت الباء‏.‏ وقدم صدق قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وابن زيد‏:‏ هي الأعمال الصالحة من العبادات‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال زيد بن أسلم وغيره‏:‏ هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سابقة خير عند الله قدموها‏.‏ وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله‏:‏

مالك وضاح دائم الغزل *** ألست تخشى تقارب الأجل

صل لذي العرش واتخذ قدماً *** ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضاً‏:‏ سلف صدق‏.‏ وقال عطاء‏:‏ مقام صدق‏.‏ وقال يمان‏:‏ إيمان صدق‏.‏ وقال الحسن أيضاً‏:‏ ولد صالح قدموه‏.‏ وقيل‏:‏ تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة، كما قال‏:‏ «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقيل‏:‏ تقدم شرف، ومنه قول العجاج‏:‏

ذل بني العوام من آل الحكم *** وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج‏:‏ درجة عالية وعنه منزلة رفيعة‏.‏ ومنه قول ذي الرمة‏:‏

لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري‏:‏ قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان‏:‏ قدم في الخير، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول‏:‏ رجل صدق‏.‏ وعن الأوزاعي‏:‏ قدم بكسر القاف تسمية بالمصدر قال‏:‏ الكافرون‏.‏ ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره‏:‏ فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال الكافرون‏:‏ يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله‏:‏ أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا‏.‏

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع‏:‏ لسحر إشارة إلى الوحي، وباقي السبعة، وابن مسعود، وأبو رزين، ومسروق، وابن جبير، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وابن محيصن، وابن كثير، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر‏.‏ وقرأ الأعمش أيضاً‏:‏ ما هذا إلا ساحر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم، وحال بين القريب وقريبه، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً‏.‏ ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد، لم يحتج قولهم إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال‏:‏ فرعون وقومه في موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن هذا لساحر عليم‏}‏ ‏{‏قالوا ساحران تظاهران‏}‏ وقوم عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش‏}‏ تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد‏.‏ ففي الأعراف‏:‏ ‏{‏ولقد جئناهم بكتاب فصلناه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ وهنا تلك آيات الكتاب‏.‏ وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد‏.‏ ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى‏.‏

‏{‏يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ أي يقضيه وحده‏.‏ والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها، والأمر قيل‏:‏ الخلق كله علويه وسفليه‏.‏ وقيل‏:‏ يبعث بالأمر ملائكة، فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وعزرائيل للقبض، وإسرافيل للصور‏.‏ وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه‏.‏ ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك، وأنه لا يجترئ أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب‏.‏ وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفاً‏}‏ الآية‏.‏ ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم‏:‏ هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ردّ ذلك تعالى عليهم، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين‏:‏ الابتداء والانتهاء‏.‏ وقال أبو مسلم الأصبهاني‏:‏ الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر، فمعنى الآية‏:‏ أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له‏:‏ كن‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً‏.‏

‏{‏ذلكم الله ربكم فاعبدوه‏}‏‏:‏ أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم، فهو المستحق للعبادة، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى، فلا تشركوا به بعض خلقه‏.‏

‏{‏أفلا تذكرون‏}‏‏:‏ حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم‏.‏ وانتصب وعد الله وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير‏:‏ وعد الله وعداً، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏صبغة الله‏}‏ ‏{‏وصنع الله‏}‏ والتقدير‏:‏ في حقاً حق ذلك حقاً‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق‏.‏ وقال علي بن سليمان التقدير‏:‏ وقت حق وأنشد‏:‏

أحقاً عباد الله أن لست خارجاً *** ولا والجاً إلا عليّ رقيب

وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، والأعمش، وسهل بن شعيب‏:‏ أنه يبدأ بفتح الهمزة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ هو منصوب بالفعل، أي‏:‏ وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى‏:‏ إعادة الخلق بعد بدئه‏.‏ وعد الله على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي‏:‏ حق حقاً بدءُ الخلق كقوله‏:‏

أحقاً عباد الله أن لست جائياً *** ولا ذاهباً إلا عليّ رقيب

انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وموضعها النصب على تقدير أحق أنه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ موضعها رفع على تقدير لحق أنه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويجوز عندي أن يكون أنه بدلاً من قوله‏:‏ وعد الله‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ إن شئت قدرت لأنه يبدأ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت قدرت وعد الله حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ حق بالرفع، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى‏.‏ وكون حق خبر مبتدأ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول‏:‏ صحيح إنك تخرج، لأنّ اسم أنّ معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة‏.‏ والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى، وإعادته هو البعث من القبور، وليجزي متعلق بيعيده أي‏:‏ ليقع الجزاء على الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ البدء من التراب، ثم يعيده إلى التراب، ثم يعيده إلى البعث‏.‏ وقيل‏:‏ البدء نشأته من الماء، ثم يعيده من حال إلى حال‏.‏ وقيل‏:‏ يبدؤه من العدم، ثم يعيده إليه، ثم يوجده‏.‏ وقيل‏:‏ يبدؤه في زمرة الأشقياء، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء، وبعكس ذلك‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ يبدئ من أبدأ رباعياً، وبدأ وأبدأ بمعنى، وبالقسط معناه بالعدل، وهو متعلق بقوله‏:‏ ليجزي أي‏:‏ ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم، فيوصل كلاًّ إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال، فينصف بينهم ويعدل، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنّ الشرك ظلم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ والعصاة ظلام لأنفسهم، وهذا أوجه لمقابلة قوله‏:‏ بما كانوا يكفرون انتهى، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله‏:‏ الذين آمنوا، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين‏.‏ ولما كان الحديث مع الكفار مفتتح السورة معهم، ذكر شيئاً من أنواع عذابهم فقال‏:‏ ‏{‏لهم شارب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏ وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياءً أي‏:‏ ذات ضياء أو مضيئة، أو نفس الضياء مبالغة‏.‏ وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً‏.‏ ويحتمل أنْ تكون بمعنى خلق فيكون حالاً، والقمر نوراً أي‏:‏ ذا نور، أو منور، أو نفس النور مبالغة، أو هما مصدران‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أنْ يكون ضياء جمع كحوض وحياض، وهذا فيه بعد‏.‏ ولما كانت الشمسُ أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور‏.‏ قال أرباب علم الهيئة‏:‏ الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة، والقمر ليس كذلك، فخص الأعظم بالأعظم‏.‏ وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نور السموات والأرض‏}‏ يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور‏.‏ فقال ابن عطية‏:‏ لفظة النور أحكم أبلغ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام‏.‏ ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة‏.‏ فمعنى الآية‏:‏ أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون‏.‏ ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية‏.‏

وقرأ قنبل‏:‏ ضياء هنا، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء‏.‏ ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً، فكانت همزة‏.‏ وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل، والظاهر عود الضمير على القمر أي‏:‏ مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، أو قدر له منازل، فحذف وأوصل الفعل، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله‏:‏ ‏{‏والقمر قدرناه منازل‏}‏ وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتزئ بذكر أحدهما كما قال‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ وكما قال الشاعر‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطوى رماني

والمنازل هي البروج، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء، وهي ثمانية وعشرون منزلة‏:‏ الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والدبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلغ، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المؤخر، والرشاء وهو الحوت‏.‏

واللام متعلقة بقوله‏:‏ وقدره منازل‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ سئل أبو عمرو عن الحساب، أفبنصبه أو بجره‏؟‏ فقال‏:‏ ومن يدري ما عدد الحساب‏؟‏ انتهى‏.‏ يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ‏.‏ وقيل‏:‏ اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور، وكنى بالحساب عن المعاملات، والإشارة بذلك إلى مخلوقه‏.‏ وذلك يشار بها إلى الواحد، وقد يشار بها إلى الجمع‏.‏ ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثاً كما جاء ‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلاً‏}‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏ وقال ابن جرير‏:‏ الحق هنا هو الله تعالى، والمعنى‏:‏ ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى‏.‏ وما قاله تركيب قلق، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد‏.‏ وقيل‏:‏ الباء بمعنى اللام، أي للحق، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته‏.‏ وقرأ ابن مصرف‏:‏ والحساب بفتح الحاء، ورواه أبو توبة عن العرب‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص‏:‏ يفصل بالياء جرياً على لفظة الله، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح‏.‏ والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

والاختلاف تعاقب الليل والنهار، وكون أحدهما يخلف الآخر‏.‏ وما خلق الله في السموات من الأجرام النيرة التي فيها، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى‏.‏ والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الظاهر أن الرجاء هو التأميل والطمع أي‏:‏ لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا يخافون‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ وهذه الآية في الكفار، والمعنى أنّ المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة، ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله‏.‏ وفي الكلام محذوف أي‏:‏ ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ والمعنى أنّ منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا‏.‏ واطمأنوا أي سكنوا إليها، وقنعوا بها، ورفضوا ما سواها‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ والذين هم، هو قسم من الكفار غير القسم الأول، وذلك التكرير الموصول، فيدل على المغايرة، ويكون معطوفاً على اسم إنّ ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية‏.‏ ويحتمل أن يكون من عطف الصفات، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون، هم الذين لا يرجون لقاء الله‏.‏ والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة، ويحتمل أن يكون واو الحال أي‏:‏ وقد اطمأنوا بها‏.‏ والآيات قيل‏:‏ آيات القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام، وبما كانوا يكسبون إشعاراً بأنّ الأعمال السابقة يكون عنها العذاب، وفي ذلك ردّ على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالكسب‏.‏ ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال‏:‏ ‏{‏يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح، فيقوده إلى الجنة» وبعكس هذا في الكافر‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زادهم هدى‏}‏ وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها بعد الموت‏.‏ قال القفال‏:‏ وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم، وتجري من تحتهم الأنهار، إلا أنه حذف الواو‏.‏ وقيل‏:‏ معناه تقدّمهم إلى الثواب من قول العرب‏:‏ القدم تهدي الساق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يرحمهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يدعوهم‏.‏ والظاهر أنّ تجري مستأنفاً فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين‏:‏ أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار، وذلك في الآخرة‏.‏ كما تضمنت الآية في الكفار شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه، والثاني‏:‏ مقرهم ومأواهم وذلك النار، فصار تقسيماً للفريقين في المعنى‏.‏ وتقدّم قول القفال‏:‏ أن يكون تجري معطوفاً حذف منه الحرف، وأن يكون حالاً ومعنى من تحتهم أي‏:‏ من تحت منازلهم‏.‏ وقيل‏:‏ من بين أيديهم، وليس التحت الذي هو بالمسافة، بل يكون إلى ناحية من الإنسان‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏قد جعل ربك تحتك سرياً‏}‏ وقال‏:‏ وهذه الأنهار تجري من تحتي‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور‏.‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ الأمر كذلك، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال‏:‏ إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال‏:‏ بإيمانهم، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ وجوزوا في جنات النعيم أن يتعلق بتجري، وأن يكون حالاً من الأنهار، وأن يكون خبراً بعد خبر، لأنّ ومعنى دعواهم‏:‏ دعاؤهم ونداؤهم، لأنّ اللهم نداء الله، والمعنى‏:‏ اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت‏:‏ اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد‏.‏ وقيل‏:‏ عبادتهم كقوله‏:‏ ‏{‏وأعتزلكم وما تدعون من دون الله‏}‏ ولا تكليف في الجنة، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ، وأطلق عليه العبادة مجازاً‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ فعلهم وإقرارهم‏.‏ وقال القاضي‏:‏ طريقهم في تقديس الله وتحميده‏.‏

وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً، فيكون مصدراً مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل، بل يكون كقوله‏:‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ وقيل‏:‏ يكون مضافاً إلى المفعول، والفاعل الله تعالى أو الملائكة أي‏:‏ تحية الله إياهم، أو تحية الملائكة إياهم‏.‏ وآخر دعواهم أي‏:‏ خاتمة دعائهم وذكرهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه، ويختمون بشكره والثناء عليه‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ يفتتحون بالتوحيد، ويختمون بالتحميد‏.‏ وعن الحسن البصري‏:‏ يعزوه إلى الرسول أنّ أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح‏.‏ وأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف، والجملة بعدها خبر إنْ، وأن وصلتها خبر قوله‏:‏ وآخر‏.‏ وقرأ عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وابن محيصن، ويعقوب‏:‏ أن الحمد بالتشديد ونصب الحمد‏.‏ قال ابن جني‏:‏ ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف، ورفع الحمد هي على أنّ هي المخففة كقول الأعشى‏:‏

في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أن هالك كل من يحفى وينتعل

يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف‏.‏ وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة، وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة، والحمد لله خبر، وآخر دعواهم‏.‏ وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين، وليس هذا من محال زيادتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قال مجاهد‏:‏ نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا‏.‏ فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديره‏:‏ فلا يفعل ذلك، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول، ووصل إلى هذا المعنى بقوله‏:‏ فنذر الذين لا يرجون، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً قاله ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قولهم‏:‏ إئتنا بما تعدنا، وما جرى مجراه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمراد أهل مكة‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة‏}‏ يعني‏:‏ ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا، وما معناه‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ قوله‏:‏ ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال‏:‏ ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم، فنذرهم في طغيانهم، أو فنمهلهم، ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم‏.‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء الله إلى رجل منهم، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلولَ ما أنذروه بهم فقالوا‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة‏}‏ وقال إخباراً عنهم‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى، وذكر إيجاده العالم، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلاً لو وقع لهلكوا، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم، وإخراج مؤمن من صلهم بل اقتضت حكمته أنْ لا يعجل لهم ما طلبوه، لما ترتب على ذلك‏.‏ وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم‏.‏ وقال الحوفي وابن عطية‏:‏ التقدير مثل استعجالهم، وكذا قدره أبو البقاء‏.‏ ومدلول عجل غير مدلول استعجل، لأنّ عجل يدل على الوقوع، واستعجل يدل على طلب التعجيل، وذاك واقع من الله، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبه التعجيل بالاستعجال، لأنّ طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره‏:‏ ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير، لأنّهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم، كما كانوا يستعجلون بالخير‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ لقضى مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب، والأعمش لقضينا، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، وأجلهم بالرفع‏.‏ وقضى أكمل، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره‏:‏ فنحن نذر قاله الحوفي‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره‏:‏ ولكن نمهلهم فنذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

المرور‏:‏ مجاوزة الشيء والعبور عليه، تقول‏:‏ مررت بزيد جاوزته‏.‏ والمرة‏:‏ القوة، ومنه ذو مرة‏.‏ ومرر الحبل قواه، ومنه‏:‏ «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي»

‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏‏:‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعمه في طغيانه، بيِّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر‏.‏ والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل‏:‏ إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله‏:‏ ابن عباس ومقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ عقبة بن ربيعة‏.‏ وقيل‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ هما قاله عطاء‏.‏ وقيل‏:‏ النضر بن الحرث، وأنه لا يراد به الكافر، بل، المراد الإنسان من حيث هو، سواء كان كافراً أم عاصياً بغير الكفر‏.‏ واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد، واحتملت أن تكون لأشخاص، إذ الإنسان جنس‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعياً ملتجئاً راغباً إلى الله في جميع حالاته كلها‏.‏ وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها، وهي حالة القعود، وهي حالة العجز عن القيام، ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم‏.‏ ولجنبه حال أي‏:‏ مضطجعاً، ولذلك عطف عليه الحالان، واللام على بابها عند البصريين والتقدير‏:‏ ملقياً لجنبه، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه‏.‏ وذو الحال الضمير في دعانا، والعامل فيه دعانا أي‏:‏ دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والعامل فيه مس‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان‏.‏ والضر‏:‏ لفظ عام لجميع الأمراض‏.‏ والرزايا في النفس والمال والأحبة، هذا قول اللغويين‏.‏ وقيل‏:‏ هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى‏.‏ والقول الأول قول الزجاج‏.‏ وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالاً من الإنسان والعامل فيها مس، قال‏:‏ لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه‏.‏ والثاني‏:‏ أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله، لا على الضر يصيبه في كل أحواله، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى‏.‏ وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول‏:‏ إذا جاءنا زيد فقيراً أحسنا إليه، فالمعنى‏:‏ أحسنا إليه في حال فقره، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء‏.‏

ومعنى كشف الضر‏:‏ رفعه وإزالته، كأنه كان غطاء على الإنسان ساتراً له‏.‏ وقال صاحب النظم‏:‏ وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل، وفلما كشفنا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية‏:‏ أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى‏.‏ والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أعرض عن الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، وهذا قريب من القول الذي قبله‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقوله مر، يقتضي أنّ نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى‏.‏ والكاف من كذلك في موضع نصب أي‏:‏ مثل ذلك‏.‏ وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك، وزين مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل خلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته‏.‏ قيل‏:‏ أو النفس‏.‏ وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية، كما يضيع المنفق ماله متجاوزاً فيه الحدَّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار، والوعيد لهم، وضرب الأمثال، فكما فعل بهؤلاء، يفعل بكم‏.‏ ولفظة لما مشعرة بالعلية، وهي حرف تعليق في الماضي‏.‏ ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية‏.‏ لو قلت‏:‏ جئت حين قام زيد، لم يكن مجيئك مستبباً عن قيام زيد، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب‏.‏ وجاءتهم ظاهره أنه معطوف على ظلموا أي‏:‏ لما حصل هذان الأمران‏:‏ مجيء الرسل بالبينات، وظلمهم أهلكوا‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ والواو في وجاءتهم للحال أي‏:‏ ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ البينات مخوفات العذاب، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون، وأنه معطوف على قوله‏:‏ ظلموا‏.‏ وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال‏:‏ واللام لتأكيد النفي بمعنى‏:‏ وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى‏:‏ أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الضمير في قوله‏:‏ وما كانوا ليؤمنوا، عائد على أهل مكة، فعلى قوله يكون التفاتاً، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ويكون متسقاً مع قوله‏:‏ وإذا تتلى عليهم‏.‏ والكاف في كذلك في موضع نصب أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء، وهو الإهلاك‏.‏ نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ يجزي بالياء، أي يجزى الله، وهو التفات‏.‏ والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ خطاب لمشركي مكة، والمعنى‏:‏ استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم‏.‏ ومعنى لننظر‏:‏ لنتبين في الوجود ما عملناه أولاً، فالنظر مجاز عن هذا‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإنْ قلت‏:‏ كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى‏.‏ وفيه دسيسة الاعتزال، وأنه يلزم من النظر المقابلة، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم‏.‏ وقيل‏:‏ لننظر، هو على حذف مضاف أي‏:‏ لينظر رسلنا وأولياؤنا‏.‏

وأسند النظر إلى الله مجازاً، وهو لغيره‏.‏ وقرأ يحيى بن الحرث الزماري‏:‏ لنظر، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال‏:‏ هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعني‏:‏ أنه رآها بنون واحدة، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ، ولا على إدغامها في الظاء، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة، فتوهم السامع أنه إدغام، فنسب ذلك إليه‏.‏ وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة‏.‏ وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قال ابن عباس والكلبي‏:‏ نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا‏:‏ يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ نزلت في جماعة من مشركي مكة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في خمسة نفر‏:‏ عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن وائل‏.‏ وقيل‏:‏ الخمسة الوليد، والعاصي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، وروي هذا عن ابن عباس‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا‏:‏ ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى‏:‏ ساهلنا يا محمد، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا، وأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى‏.‏ ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه، والمعنى‏:‏ وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى، ويكون في الصفة‏.‏ والتبديل هنا هو في الصفة، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغاير هو الشيء بعينه، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا‏.‏ ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان، لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏.‏ وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏ أي يستحيل ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون التبديل في الذات على أن يلحظ في قوله‏:‏ ائت بقرآن غير هذا، إبقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين‏:‏ إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين‏.‏ وتلقاء مصدر البنيان، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول‏:‏ زيد تلقاءك‏.‏ وقرئ بفتح التاء، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى‏:‏ من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء‏.‏

واستدل بقوله‏:‏ إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد، وعلى نفي القياس، وإنما قالوا‏:‏ ائت بقرآن غير هذا أو بدله، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله‏.‏ ألا ترى إلى قولهم‏:‏ لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم‏:‏ ‏{‏افترى على الله كذباً‏}‏ ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله‏:‏ إني أخاف‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ المكر والكيد‏.‏ أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك، وإنك لقادر على مثله، فأبدل مكانه آخر‏.‏ وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله تعالى انتهى‏.‏ وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي، وتقدم اتباع الوحي، وتركي العمل به، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله‏.‏ واليوم العظيم‏:‏ هو يوم القيامة، ووصف بالعظم لطوله، أو لكثرة شدائده، أو للمجموع‏.‏ وانظر إلى حسن هذا الجواب لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف، وعلقه بمطلق العصيان، فبأدنى عصيان ترتب الخوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي‏:‏ إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وإخبار ما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به‏.‏ ومفعول شاء محذوف أي؛ قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفياً بما، ويقال‏:‏ دريت به، وأدريت زيداً به، والمعنى‏:‏ ولا أعلمكم به على لساني‏.‏ وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه‏:‏ ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي، والمعنى‏:‏ ولأعلمكم به من غير طريقي وعلى لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس‏.‏

وقراءة الجمهور‏:‏ ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً، والمعطوف على الجواب جواب‏.‏ وأنت لا تقول‏:‏ لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون ما كان كذا‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء‏:‏ ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة على لغة من قال‏:‏ لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد‏:‏ لبيت ورثيت‏.‏ وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق المشتأق‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن الهمزة أصل وهو من الدرء، وهو الدفع يقال‏:‏ درأته دفعته، كما قال‏:‏ ‏{‏ويدرأ عنها العذاب‏}‏ ودرأته جعلته دارئاً، والمعنى‏:‏ ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني‏.‏ وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك‏:‏ أعطأتك‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك، قيل‏:‏ ثم همز على لغة من قال في العالم العألم‏.‏ وقرأ شهر بن خوشب والأعمش، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار، وكذا هي في حرف ابن مسعود، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً، لم تجربوني في كذب، ولا تعاطيت شيئاً من هذا، ولا عانيت اشتغالاً، فكيف أتهم باختلاقه‏؟‏ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم، ولا تتلمذ، ولا مطالعة كتاب، ولا مراس جدال، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به‏؟‏ كما جاء في حديث هرقل‏:‏ «هل جربتم عليه كذباً‏؟‏ قال‏:‏ لا فقال‏:‏ لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله»‏.‏

وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو، وأظهرها باقي السبعة‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ عمراً بإسكان الميم، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن‏.‏ وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة، وعلى النزول، وعلى الوقت يعني‏:‏ وقت نزوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

تقدم تفسير مثل هذا الكلام، ومساقه هنا باعتبارين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لما قالوا‏:‏ ائت بقرآن غير هذا أو بدله، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذباً كما قال‏:‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال‏:‏ أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله، وقد كذبتم بآياته، فلا أحد أظلم منكم‏.‏ والاعتبار الثاني‏:‏ أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي‏:‏ لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكاً، وأن له ولداً، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم‏.‏ وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر‏.‏ قيل‏:‏ إنْ عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم‏.‏ ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وأسافاً ونائلة وهبل، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة‏.‏ وفي قوله‏:‏ من دون الله، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعنون في الآخرة‏.‏ وقال النضر بن الحرث‏:‏ إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث‏.‏ وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه، وما موصولة بمعنى الذي‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبراً ليس له مخبر عنه انتهى‏.‏ فتكون ما واقعة على الشفاعة، والفاعل بيعلم هو الله، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما‏.‏ وقوله‏:‏ في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري‏.‏ وفي التحرير‏:‏ أتنبئون، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار، والمعنى على هذا‏:‏ أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السموات والأرض، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي‏.‏ وقيل‏:‏ أتخبرون الله بما لا يعلمه موجوداً في السموات والأرض، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله، وهو كما يقال للرجل‏:‏ قد قلت كذا، فيقول‏:‏ ما علم الله هذا مني، أي ما كان هذا قط، إذ لو كان لعلمه الله انتهى‏.‏

والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله، وذلك على حذف مضاف والمعنى‏:‏ قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي‏:‏ ليست متصفة بعلم البتة، فيكون ذلك رداً عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله، لأنّ من كان منتفياً عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه، ولا ما يشفع فيه، ولا من تشفع عنده‏؟‏ كما رد عليهم في العبادة بقوله‏:‏ ما لا يضرهم ولا ينفعهم، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة، ويكون قوله‏:‏ في السموات والأرض على هذا تنبيهاً على محال المعبودات المدعي شفاعتهم، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى‏.‏

وقرئ‏:‏ أتنبئون بالتخفيف من أنبأ‏.‏ ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع، وكان ذلك إشراكاً، استأنف تنزيهاً بقوله سبحانه وتعالى‏.‏ وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي‏:‏ شركائهم الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم‏.‏ وقرأ العربيان والحرميان وعاصم‏:‏ يشركون بالياء على الغيبة هنا، وفي حرفي النحل، وحرف في الروم‏.‏ وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر، في النمل فقط بالياء على الخطاب، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب، وأتى بالمضارع ولم يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس، والظاهر عموم الناس‏.‏ ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر، وقاله‏:‏ أبي بن كعب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المراد أصحاب سفينة نوح، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود، وسواع‏.‏ وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم‏:‏ ‏{‏ألست بربكم‏}‏ لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم‏.‏ وقال الأصم‏:‏ هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده، وهو مروي عن‏:‏ مجاهد، والسدّي، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير‏.‏ وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ في الشرك‏.‏ وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر، فآمن بعضهم، واستمر بعضهم على الكفر‏.‏ أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بعضهم، أو العرب خاصة، أقوال ثالثها للزجاج‏.‏ والظاهر أنّ المراد بقوله‏:‏ أمة واحدة في الإسلام، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام‏.‏ فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر، إنما المناسب أن يقال‏:‏ إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه‏.‏ وأيضاً فقوله‏:‏ ولولا كلمة، هو وعيد، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر، هو المقتضى للوعيد، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده‏.‏

والكلمة هنا هو القضاء، والتقدير‏:‏ لبني آدم بالآجال المؤقتة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه، وتمييز المحق من المبطل‏.‏ وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب، أو بإقامة الساعة‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة قوله‏:‏ ‏{‏سبقت رحمتى غضبى‏}‏ ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

هذا من اقتراحهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات‏.‏ وجعلوا نزولها كلا نزول، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا‏:‏ لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وإنهماكهم في الغي فقل‏:‏ إنما الغيب لله أي‏:‏ هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لأحدٍ به‏.‏ يعني‏:‏ أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ آية من ربه، آية تضطر الناس إلى الإيمان، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط، ولا من المعجزات اضطرارية، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، فقل‏:‏ إنما الغيب لله إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد‏.‏ وقوله‏:‏ فانتظروا، وعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا‏}‏ الآية وقيل‏:‏ آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء، وإحياء الموتى، طلبوا ذلك على سبيل التعنت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون‏}‏ الآية ثم ذكر قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه آية‏}‏ وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته‏.‏ وإعراضهم عن الآيات نظير قوله‏:‏ ‏{‏فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه‏}‏‏.‏ وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال‏:‏ إدع لنا بالخصب، فإنّ أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير‏.‏ تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته‏.‏ والرحمة هنا الغيث بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك‏.‏ ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن، والشك فيه قاله الجماعة‏.‏ وقال مجاهد ومقاتل‏:‏ الاستهزاء والتكذيب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الرد والجحود‏.‏ وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو شبيه بما قال الزمخشري‏:‏ إنّ المكر أخفى الكيد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى‏.‏ والإذاقة والمس هنا مجازان، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل‏:‏ أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي‏:‏ ينشئ المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك‏.‏ وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر‏.‏ ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل‏:‏ قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل‏.‏ ومعنى وصف المكر بالأسرعية‏:‏ أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم، وهو موقعه بكم، واستدرجكم بإمهاله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أسرع من سرع، ولا يكون من أسرع يسرع، حكى ذلك أبو علي‏.‏ ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «في نار جهنم لهي أسود من القار» وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب‏.‏

وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب‏:‏ المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقاً، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو‏:‏ أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو‏:‏ سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السواد والبياض فقط‏.‏

والرسل هنا الحفظة بلا خلاف‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن الله لا يخفى عليه، وهو منتقم منكم‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وأبو عمر‏:‏ رسلنا بالتخفيف‏.‏ وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ورويت عن نافع‏:‏ يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق‏.‏ وقرأ أبو رجاء، وشيبة، وأبو جعفر، وابن أبي إسحاق، وعيسى، وطلحة، والأعمش، والجحدري، وأيوب بن المتوكل، وابن محيصن، وشبل، وأهل مكة، والسبعة‏:‏ بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتاً لقوله‏:‏ قل الله أي‏:‏ قل لهم، فناسب الخطاب‏.‏ وفي قوله‏:‏ إنّ رسلنا التفات أيضاً، إذ لم يأت أنّ رسله‏.‏ وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي‏:‏ يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكراً، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف‏.‏